سارة التي تحدت واقعها وأكملت دراستها
هذه القصة تم تدوينها عام 2022 و الاسم مستعار
ضحايا الحرب عندما نسمع هذه الجملة يتبادر إلى أذهاننا الضحايا الذين ماتوا فقط ( استشهدوا ) لكن في الحقيقة لهذه الجملة دلالات عدة ليس من مات فقط ضحية؛ فالذي خسر شخص عزيز ضحية ، والذي خسر بيته ضحية ، والذي تهدم حلمه ضحية ، والذي تيتم ضحية، والتي ترملت ضحية، والتي اغتُصبت ضحية، والتي تشردت ضحية، والتي خسرت المدرسة ضحية، كل هؤلاء ضحية للحرب ولكل شخص منهم قصة جعلت منه ضحية .
وأنا واحدة منهم تركت المدرسة وتزوجت بسب الحرب وأصبحت ضحية لها .
كانت سارة في الثامنة عشرة من العمر عندما احتل داعش الموصل تقول : كنت قد نجحت لتوي من الخامس العلمي إلى السادس بعد معاناة لا يعلمها إلا الله من محاربة الكل لي ولوالدي ! لأني كنت البنت الوحيدة من أقاربنا مستمرة في الدراسة وكان هذا الامر - بنت تكمل الدراسة شيء خاطىء بالنسبة لهم ، لأنهم لم يكملوا دراستهم وغير متعلمين ولايعرفون قيمة التعليم، فقط والدي كان تخرج ويحب العلم والثقافة دائمًا ، وكان يسعى لكي نتعلم في كل الظروف الصعبة التي مرت بنا لم يهمل يوم دراستنا ، حتى إخوتي أيضاً كانوا يقولون إنهم لا يريدون أن تقول الناس أن أختهم تذهب إلى المدرسة.
تضيف سارة : لكن أبي كان رده دائمًا عليهم أنه يثق بي وأنه يعلم تربيتي ولا يهمه كلام أحد، وبالتأكيد كانت ثقة والدي بي مسؤولية كبيرة ؛ لأن الثقة كالأمانة من الصعب أن تخذل... واجهنا الكل وواجهنا كلام الناس .
اشارت سارة الى الانعطافة التي حصلت في حياتها : في يوم من أيام الصيف الجميلة أشرقت الشمس ككل يوم ، كما كنا نظن لكن على ما يبدو كان القدر يخبئ لنا شيء آخر، استيقظنا على أخبار مأساوية، استيقظنا على حدث جعل كل أهل الموصل ضحايا دون استثناء فلا من خرج وترك أرضه وداره سَلم، ولا من بقي سلم، كما انتشرت الكثير من الاخبار ( منها أنهم يسبون النساء ويقتلون أي شخص معارض لهم و و و....) الكثير من الاخبار التي لا تحتمل وتجعل كل شخص يصدقها لأننا رأينا ما فعلوه بسوريا ، لذا فالكل من دون تفكير ومن دون أن يأخذ أي شيء أخذ أطفاله وخرج من الموصل ، البعض ذهب للشمال والآخر ذهب للجنوب هكذا تفرقوا أبناء الموصل بين ليلة وضحاها..
بدأت الضحايا تتساقط وبدأت مرحلة جديدة في حياة كل شخص منا، بالنسبة لنا نحن ذهبنا إلى أقاربنا في الشمال استقبلونا ولم يقصروا معنا باي شيء وأعطونا مشتملات على السطح غرفة صغيره مع حمام ومطبخ صغير .
قالت سارة – كانت ظروف النزوح صعبة أذ لم نكن نحن وحدنا فمعنا أعمامي أيضاً اثنان مع عوائلهم ، أخذنا نحن الغرفة وهم المطبخ ، ونحن كنا عائلة كبيرة ، أخواني متزوجون ولهم أطفال وغرفة واحدة صغيرة ، كنا ننام على السطح لأن الجو كان حار (صيف) مرت ثلاثة أشهر ونحن على هذه الحالة والأمطار بدأت تتساقط والشتاء قادم والناس لا مأوى لا أمل للعودة ، والكل خسر عمله.
اشارت سارة : بدأنا نبحث عن بيت للإيجار وكان الامر صعبا لأن البيوت كلها محجوزة ومن الصعب العثور على بيت، وجدنا أخيراً وبعد بحث طويل بيتاً آيل للسقوط ، وسقفه ينقط علينا الماء وبسعرٍ كبيرٍ جداً لمستوى هذا البيت ، لم يكن هناك خيار آخر امامنا .
أكملت سارة هذه المرحلة في العيش نازحين بالقول : انتقلنا إلى البيت على الرغم من أنه لا يسكن به لكن كنا فرحين به لأنه وأخيراً أصبح لنا مأوى يحمينا من المطر والشتاء وهنا بدأنا من الصفر! ، من دون أي أثاث أو منام أو أواني أو أي شيء، فالبيت فارغ وأبي وأخواني دون عمل فقط راتب أبي كان يعيشنا ، وكان لدى أخوتي أطفال بحاجة للحليب والمستلزمات .
ومن جهة أخرى بدأت المدارس وأنا كنت متشوقة جداً لكن أعلم أن دوامي هذه السنة مستحيل وسط كل هذه الظروف التي نحن بها ، لكن أبي كان مهتم كثيراً بدراستنا وبدأ يبحث لنا عن مدرسة عربية لأن هناك يدرسون في اللغة الكردية ولا توجد مدارس عربية ، وجد لنا مدرسة وأخذنا ليسجلنا لا تعلمون مدى فرحتي عندما ذهبت وسجلت وكأني عثرت على بصيص أمل صغير وسط كل الظلام المحيط بنا .
اضافت سارة : سجلنا أبي أنا وأختي وأخي ووجد لنا اشتراك أيضاً وعندما رجعنا إلى البيت بدأت المعركة بين أخواني وأمي وأبي حيث قالوا كيف يذهبون إلى المدرسة وإن مبلغ اشتراك النقل مبلغ كبير خمسة وستون ألف لكل نفر ونحن من دون عمل ولا دخل يومي ، والإيجار كبير من أين سنسدد ، أبي لم يهتم لكلامهم وقال لهم أنه من المستحيل أن يقبل بإضاعة سنة من أعمارنا دون مدرسة ، وسأدبر لهم المصاريف مهما كانت الظروف ولا دخل لأحد بي وبأولادي.
قالت سارة انهم واضبوا على الدوام في ظروف صعبة وداومنا دون كتب ولا مدرسين وأنا في الصف السادس، لم يكن حتى هناك دروس على الإنترنت كما هو الحال الآن ، وصلت إلى نصف السنة من دون كتب ولا ملازم وأنا دائماً أفكر بتضحية أبي لكي ندرس، وثقته بي كل هذا حمل أحمله ثقيل وصعب ، وعليي أن أحقق حلمين حلم أبي وحلمي وهذا صعب جداً بهذه الظروف لكن كنت أحاول.
سادرة واجهت الظروف ولكن في لحظة شعرت بالضعف اذ قالت : أخبرت أبي بأني أريد أن أترك الدراسة لأني لم أعد أسيطر على المواد من دون كتب، ولم يبقَ على نهاية العام سوى ثلاثة أشهر ، رفض أبي أن أترك واتصل بأختي في الجنوب وطلب منها أن تشتري لي كتب وترسلها ، اشترت أختي الكتب وأرسلتها وكانت كلها قديمة وممزقة وبسعر كبير وأخواني وأمي أيضاً تعاركوا مع أبي لكن كالعادة لم يسمع لهم .
وصفت سارة فرحة الحصول على الكتب : فرحت كثيراً بالكتب وفي نفس الوقت حزنت لأني أعلم أن أبي ظروفه صعبة ، بدأت أدرس بكل جد ، ومر شهران وبدأت العطلة الدراسية، وصاحب البيت أخبرنا بأن نخرج لأنهم يريدون أن يهدموه ،،،، بحثنا كثيراً عن منزل آخر لكن لم نجد اضطررنا أن نذهب للمخيم وهنا كانت نقطة التحول في حياتي واحلامي..
اكملت سارة نقل واقعها بالقول : انتقلنا الى المخيم وأنا أدرس ولم يبقَ للامتحانات الوزارية سوى أقل من شهر وابتعدنا كثيرًا عن المدرسة التي كنت أداوم بها والوقت لم يبقَ منه الكثير بالإضافة إلى هذا كانت هناك ( موده ) جديدة ؛ فكل من كان لديه ولد شاب بدأ يستغل الفرصة ويزوجه لأسباب عدة : أولها لكي يحصل على بطاقة في المساعدات الإنسانية ؛ وثانيها لتقليل المصاريف فليس هناك مصاريف كثيرة لأنها من دون حفلة عرس ولا غرفة ولا أثاث فكانت فرصة استغلها الكثير ، ومن جهة أخرى بالنسبة للذي لديه بنت بالتأكيد كان يريد ان يزوجها لكي يؤمن عليها لأنه مازال مصيرنا مجهول وممكن بأي لحظة يصل إلينا داعش فكل أب يريد أن يستر ابنته ويطمئن عليها على العموم.
قالت سارة : كان الخطابة كل يوم يأتون إلينا قسم نعرفهم وآخرون لم نكن لدينا بهم معرفة سابقة وأكيد والدي كان دائمًا يرفض لأنه يقول الدراسة أهم ، مع أن والدتي كانت تتعارك معه وتقول الزواج أحسن لها من الدراسة، وأنا كنت مطمئنة لأنني أعلم أن أبي مستحيل يجعلني أترك الدراسة وأتزوج ، مرت الأيام وأنا أدرس ، والظروف صعبة في الخيمة ، والجو حار والشهر رمضان ، ومن دون دروس خصوصية ولا دروس على الانترنت لأنه لم يكن هناك دروس على النت منتشرة كما هو الحال الآن .
مرحلة الامتحانات و الانعطافة في حياة سارة اشارت اليها قائلة : بدأت الامتحانات وبسم الله ذهبت لأول امتحان في عز الحر والطريق طويل وامتحنت مادة التربية الإسلامية وأجبت على الأسئلة وكانت البداية سهلة. وفي ثاني امتحان وهي مادة اللغة العربية أيضًا أجبت مع أني لم أكن أتوقع ، وثالث امتحان كنت أراجع دروسي في الليل حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل وإذا بأبي يدخل لخيمته والهاتف بيده ويقول: ( كيف مات ولماذا ) أنا هنا جمدت في مكاني وأنا أتساءل ( من مات ) وأبي يتحدث ؛ علمت أن عمي قد توفي ، الذي يسكن في مخيم آخر في منطقة بعيدة عن منطقتنا بكثير... ذهبوا أبي وأمي وإخواني وأنا رجعت إلى مكاني مصدومة لا أعلم كيف أدرس بدأت ارتجف من الخوف .
وتذكرت كم هو مظلوم في هذه الحياة فهو كبير في السن لكن حتى مات ابنه الصغير الطفل الذي لم يتجاوز عمره الثالثة عشرة عامًا ، لأنه تزوج وهو كبير في السن ، لم يجلس في بيت ملك له فقضى عمره في الإيجار، ولم يرَ الراحة يوماً ، كان دائمًا يعمل بكد ، وحتى سيارته كانت قديمة جدًا. هكذا انتهت حياته في خيمة من دون أي شيء تحت مسمى نازح ، وبقوا بناته وابنه صغار بلا معين ، توفي بسكتة قلبية وقد يكون سببها حرارة الجو وقهر الخيم ، وبهذا يكون عمي أيضًا ضحية لهذه الحرب ولداعش التي جعلت منه نازح يموت في خيمته.
اشارت سارة : بينما أنا جالسة أفكر في عمي تارة وأدرس تارة أخرى ، طلع الصبح وجاء خالي ليأخذني إلى الامتحان لأن أبي اتصل به وطلب منه أن يأخذني لإداء الامتحان. أبي حتى في وفاة أخيه لم ينسَ أمر امتحاني وكان مهتما على أن أجري امتحاني وأنجح. ذهبت للامتحان وأنا أبكي وكل من يراني من صديقاتي يسألني عن حالي فأخبرتهم أن عمي قد توفي.
بدأ الامتحان لا أعلم كيف يمكنني أن أجيب ، ولكنني امتحنت وأيضًا أجبت في الامتحان (الإنكليزي) ..
اتمت سردها لوضعها في تلك الايام بالقول : بدأت الفاتحة وأنا لم أدرس جيدًا امتحنت رابع امتحان مادة الأحياء وأيضًا أجبت ، أما في ما يخص امتحان الرياضيات والكيمياء لم أجب والفيزياء كنت أراجع في الصباح وإذا بصديقتي تتصل وتسألني لماذا لم آت للامتحان ، أخبرتها إن الامتحان غدًا ، عندها قالت إن الامتحان قد تقدم وأنا لا أعلم ولم أذهب لامتحن ، لا أخبركم ماذا فعل أبي وكم ( أنبني ) قلت له كيف يمكن أن يكون عندي خبر وليس لدينا انترنت والجدول قبل يوم من موعده قد تغير ، وبهذا انتهت الامتحانات ، مع كل هذه الظروف الصعبة التي ذكرتها سابقا وكأنما القدر كان دائماً يحاول أن يمنعني من الامتحان لكن امتحنت وتحديت الكثير من الأشياء والآن أنتظر النتيجة .
التغير الذي أسقط احلام سارة قالت عنه : في يوم جاءت جارتنا ومعها امرأة لا نعرفها جاءت لتخطبني ، جلست المرأة وبدأت تمتدح نفسها وأولادها، ولا تتوقعوا كم بالغت في وصف ، ونحن نستمع إليها، قالت لها أمي إن ابنتي في المدرسة ونريدها تكمل الجامعة ، قالت: أوافق ، فنحن نريدها في المدرسة ونريدها تكمل الجامعة قالت لها أمي: إن ابنتي لا تجيد أعمال البيت ، قالت: لا أريد عملها ، فبيتها موجود عندما نعود تذهب إلى بيتها كامل فابني لديه بيت لوحده..
قالت سارة : كنت مطمئنة إن أبي لا يزوجني مهما يكن ؛ لكن تفاجأت بأن والدي وافق ومن دون أن يسألني حتى لزمت الصمت أراقب ما يحدث من تطورات الأحداث ، واتفقوا على كل شيء والولد جاء ليراني ، دخلت وجلست لكن من دون أن أرفع رأسي وأراه ، لكنه رآني ووافق على الفور ، وفي نفس اليوم اتفقوا على موعد الخطوبة . تمت الخطوبة وتمت تجهيزات العرس بشكل سريع ، وفي هذه الأثناء أعلنت النتائج ، رسبت في درسين وهما: الكيمياء والفيزياء ، لأني غبت ولم امتحنهما، جاء يوم العرس وتزوجت وكل هذا وأنا لا علم لي ، كيف ؟ وكأنه حلم سريع .
صدمة جديدة في حياة سارة جاءت بشكل غير متوقع اذ تقول : عندما تزوجت اكتشفنا أن كل كلامهم كذب فقالوا: إنهم يسكنون في بيت إيجار، ولكن في الحقيقة هم في جامع مهجور، وغرفتي من بلاستك في قاعة كبيرة مقسمة بالبلاستك وفيها( قريولة) وأثاث متكسر وقديم وأدراج بلاستيكية لملابسي ، وأنا في حالة انصدام لا أحسد عليها ، هكذا تزوجت من دون حفلة ولا غرفة ولا أخشاب وفوق كل هذا بدأت مأساتي من أول يوم في حياتي الزوجية ، في زواجي كان الكل (زوجات العريس وأخوات العريس) مرتدين ملابس جهازي وأغراضي كلها مستعملة من قبلهم ، ولديه اربع زوجات لاشقاء زوجي كلنا بنفس القاعة المقسمة بالبلاستك إلى مربعات لكل واحدة مربع ، وبعد زواجي بيومين بدأت الحرب معي من قبلهن وأخته وبدأوا يدسون في رأسه سموم الكلام وأخذ يضربني ...
اشارت سارة الى وضعها السيء بالقول : كان يخرج في الليل ليتسامر مع اصدقاءه فكان أخواته مع زوجاتهم يأمرونني بغسل المواعين وحوش الجامع كبير جداً ومظلم دون إضاءة ، لم يكتفوا بذلك بل أمروني بأن أغسل الأواني في نهاية الحوش بعيدًا عن الغرفة التي نجلس بها ، كنت أخاف والجو بارد بداية الشتاء وكانوا متقصدين بإخراج جميع المواعين لي لكي أغسلها، وعندما يأتي زوجي كانوا يقولون له إنها لا تخرج من غرفتها لتساعدنا، وفي اليوم التالي عندما خرج زوجي أخذ مفتاح الغرفة معه وبقيت أنا في خارج الغرفة لوحدي بالبرد ، وعندما كنت أريد أن أذهب للحمام لأغسل الملابس واستحم كانوا يقفلون باب الحمام ، ولم يدعوني اذهب للحمام وغرفتي مغلقة والمفتاح بحوزة زوجي والجو بارد والحوش مظلم فأنا من الخوف والبرد أغمى علي ، عندها جاءوا وأخذونا إلى الغرفة ، وجاء زوجي وفتح الباب فأخبرته بما حل بي ، وعدت لبيت اهلي هذه الامور هي التي أجبرت والدتي بأن تتمسك بي ولا تسمح بعودتي إلى بيت زوجي، لكنني عدت إليهم بعد أسبوع .
وهنا استسلمت للقدر تقول سارة : رضيت بما كتبه الله لي وبدأت قصة مأساتي التي لا توصف والتي واجهت بها كل أنواع الغدر والحقد والضرب والحرمان من أبسط الحقوق . واصبحت سارة مثلها مثل الكثيرات من النساء ضحية الحرب وضحية الجهل والتخلف .
التدقيق اللغوي / سبهان محمد حمزة
الناقل / وائل حسن الشبكي
الاشراف / سلام الروزبياني
يجب أن تكون مسجلا للدخول لتكتب تعليق.