غزل – الامرأة التي وصت العيش في ظل سيطرة تنظيم داعش على الموصل
غزل من مدينة الموصل من الجانب الأيمن، الان في الثالثة وعشرون من العمر طالبة جامعية، من عائلة تتكون منها هي الام والأب واثنين من الأخوة اثنين و ثلاث أخوات ثلاث..
تتحدث غزل في قصتها عن سير الاحداث التي عاشتها في ظل سيطرة تنظيم داعش على الموصل في صيف 2014 حينها كانت في الصف الثالث المتوسط فترة الامتحانات النهائية الوزارية ، --- غزل كانت اكملت الامتحانين الأول والثاني وهما الإسلامية واللغة العربية ، بعدها قاموا بتأجيل امتحان الرياضيات المصادف يوم 6 / 10 / 2014 بسبب هجوم داعش على مدينة الموصل .
تقول غزل : وقتها لم يعطى تأكيد بأن هناك هجوم على المدينة ، ثم قلنا بأن الوضع سيستتب ليوم أو يومين ثم بعد ذلك ستعود المياه لمجاريها ، ثم بعد ذلك تفاجئنا بغلق الطرقات ! ، ولم يستطع حتى الموظفون من العودة من دوائرهم إلى بيوتهم ، ثم انصدمنا بالقصف بكثرة ! وأخذ الناس لا يهدفون إلا في العودة إلى بيوتهم هاربين من براثن القصف .
هذه بدايات لحظات معاناة غزل مع سيطرة تنظيم داعش على الموصل التي تصفها بأنها كانت لحظات مصيرية : لم تكن لدينا نية في الهجرة والخروج من البيت لأنه لم يكن لدينا سقف نلتجئ إليه غير هذا البيت، لكنٌ جيراننا خرجوا والمنطقة السكنية أصبحت فارغة على لا صوت سوى صوت الصمت ، كنا صغار في تلك الفترة خفنا وأخذنا بالبكاء و نحاول ان نقنع أهلنا بالخروج على غرار أهل المنطقة... وافق أهلي على الخروج ؛ فخرجنا مشياً على الأقدام نحو أقاربنا في الجهة الاخرى وأخذنا فقط الأشياء والحاجيات المهمة .
تضيف غزل الرحلة من عبور النهر : عبرنا الجسر وتجاوزناه إلى الجانب الأيسر كانت الكثير من العوائل تخرج كما نحن خرجنا باحثين عن الأمان المسلوب، رفعت رأسي أنظر للسماء الزرقاء المعتمة باللون الأسود من عوادم الدخان التي خلفتها التفجيرات، كان منظراً مخيفاً ومرعباً لي ، بعدها صرنا نرى الدبابات متناثرة في المدينة، وصلنا ليلاً إلى بيت أقاربي...
تقول غزل : لم نستطع البقاء طويلا في بيت اقاربنا - لم تشأ ذكر أسمائهم في القصة - فبعد سقوط الموصل كاملاً بيد التنظيم الإرهابي رأينا أن لا فائدة من بقائنا؛ فقررنا العودة إلى بيتنا أيضاً مشياً على الأقدام ، لكن الشيء الغريب أننا لم نرى أحداً من عناصر التنظيم عند عودتنا إلى بيتنا، لكننا رأينا جثث رجال الشرطة مغطاة بالأغطية والبطانيات من قبل الناس القريبة من جثثهم ، ومقرات ومراكز الشرطة قد حرقت ، كان منظراً مفزعاً بالنسبة لي؛ لأني لم أرى في حياتي أن الأرض قد تحولت إلى اللون الأحمر جراء الدماء التي سقطت .
غزل كانت تأمل ان تكون هذه الزوبعة لفترة قصيرة وستعود الامور الى وضعها لكن تقول تفاجئنا أنه : بعد أيام وزعوا الارشادات التي تحمل قوانين التنظيم التي أوجبت على المرآة أن تلتزم بلبس النقاب بطبقتين من القماش ، والكفوف والجوارب ومنع وضع مساحيق التجميل. باختصار عندما نخرج من بيتنا نكون عبارة عن قطعة سوداء تمشي في الشارع ، والرجال منعت عنهم الحلاقة السائدة حالياً ولا لبس البنطلونات الضيقة وشرط أن يكون البنطلون قصيراً وتخرج جزء من ساقهم في الأسفل من شدة قصره، وبعد ذلك بفترة منع استخدام الموبايل وشبكة الانترنت والتلفزيونات بشكل كامل في داخل الموصل، حتى أننا كنا نخرج الصحن اللاقط ( الدش ) خلسة لنعرف الأخبار بين فترة واخرى ، وعندما نسمع صوت الركض نهرع إلى الصحن لإزالته، والكثير من الأمور منعوها عن الناس لكن الغريب أننا تعودنا لكن بشروطهم !
تمضي غزل لتنقل لنا معاناة الدراسة فتقول ثم أكملنا الامتحانات المؤجلة للثالث المتوسط ثم أكملنا الرابع ولكن في الصف الخامس تركنا الدراسة أنا وأختي لأن أهلي سمعوا بأن الدواعش أخذوا بتزويج البنات بشكل إجباري من أي داعشي يعجب بفتاة ومن دون علم أهلها، كانت الحياة عبارة عن هواء بدون أوكسجين ، الخنق في كل مكان ، إلى أن جاء اليوم الذي سمعنا بأنه سنتحرر من قبضتهم .
بدـأت الحرب ، حرب تحريرنا منهم ، أتذكر اليوم الذي قمت به من نومي ليلا في الثانية عشر لشرب الماء وسمعت صوت الصواريخ الذي لم ولن ينسى في حياتي لأني لم أسمع مثل هذا القصف أبداً .
تضيف غزل تلك الايام - بالقول : تم تحرير الجانب الأيسر ونحن نسمع الأخبار من الراديو ، ثم توقفت العمليات لمدة شهر ثم استؤنفت بعد ذلك ؛ فأخذت العوائل تتجه نازحة باتجاه الجانب الأيسر المحرر ، ونحن بيتنا قريب من الجسر كنا نشاهد كل من يخرج من الأيمن باتجاه الأيسر من العوائل ، كان رجال تنظيم داعش يلقون عليهم القبض فيبدأ نحيب النساء وبكاء الأطفال توسل الرجال بالإفراج عنهم، إلا أن لا فائدة تذكر من ذلك.
تشير غزل الى معاناة الحصول على الطعام اذ تقول : تحولت المعيشة في وقتها إلى أكبر همنا ، عشنا كالنمل فقط نبحث عن ما يسد جوع بطننا ، اخترعنا كل شيء لعمل الخبز الذي كان الحصول عليه يعادل الحصول على عمر جديد . وفي يوم من أيام التحرير ونحن نعد الخبز في المنزل خرج أبي واقفاً مع جارنا أمام باب المنزل ، وسيارة الدواعش واقفة في رأس شارعنا قرابة الخمسة عشر يوماً، فقصفت السيارة، وإذا بأبي يدخل البيت ماسكاً يده والدم يجري منها جراء شظية طارت باتجاهه، لم أرى أبي بهذا المنظر في حياتي ولكن ولله الحمد لم يكن الجرح عميقاً فمضت على خير. الجيران لم يدخروا جهداً في إسعاف أبي ، فكانت هناك امرأة من جيراننا تعمل في السلك الطبي فخاطت جرح والدي ومرت والحمد لله .
وكان عند بيتنا طبيب يمني انقطع عن أهله في اليمن أثناء دراسته للطب وتزوج من امرأة عراقية وأنجب منها ولدين وبقي في الموصل ، كان بيت هذا الطبيب قريب من السيارة التي قصفت فأصيب ولده بقلبه ورئته وأزال الانفجار عضلة يده ، وكان هذا الطبيب يعمل مع التنظيم الإرهابي مجبراً ( إن لم تعمل لمصلحتنا تقتل) ، ثم بعد ذلك تحسن ابن الطبيب بفضل والده ، ومن جراء القصف والانهدام الذي حصل في بيتهم طلبت زوجة الطبيب أن تنتقل مع عائلتها إلى بيتنا ، وافق أبي فوراً على طلب المرأة ، لأنه ولا أخفيكم سراً كانت تلك مصلحة مشتركة بيننا ، فهم بحاجة إلى مأوى يسكنون فيه ، ونحن بحاجة إلى ما يسد رمق جوعنا فقد نفذ كل شيء من بيتنا باستثناء بعض فتات الطعام ادخرناه لابن أخي الطفل الصغير ، فقد كان الطبيب ذا حال جيد فقد أنقذنا .
تشير غزل الى تلك الايام – ايام تقدم الجيش لتحرير مدينة الموصل بالقول : اقترب الجيش من بيتنا فقررنا الخروج لكن كنا خائفين من هول الدواعش خوفاً من قتلهم إيانا ، لكن قررنا أخيراً الخروج باتجاه الجيش لأننا كنا بين مطرقة القصف وسندان الدواعش، لأنهم كانوا يسوقون الناس الساكنين في المناطق المحررة لاستغلالهم كدروع بشرية، فحانت ساعة الخروج في رمضان بوقت المغرب حيث القصف قليل والدواعش منشغلين في إطعام محاربيهم ، فخرجنا ولم نأخذ معنا سوى المستمسكات والأموال، فاجتمعنا نحن والعوائل القريبة منا في مكان واحد، خرجنا ونحن نسمع صوت بكاء الأطفال وأنا أمسك القرآن بيدي ليكون حامياً لي ولعائلتي، وكانت التعليمات قد أوصونا أهلنا بالمضي باتجاه نور الجيش فقط ولا تفكروا بغير بأي أحد سوى بأنفسكم، أضعت أهلي ووصلنا بأمان إلى قوات الجيش، والجيش كان يعرف بخروجنا لأن جماعة من الناس كانوا قد اتفقوا معهم على صيغة معينة لتنفلنا إليهم ، كنا حوالي مئتي شخص والجيش يراقبنا بالطائرة المسيرة ، والدواعش أحسوا بوصولنا فبدأوا بإطلاق النيران علينا بين أرجلنا، لكن إرادة الله بحمايتنا حالت دون خدش أحدنا، وأنا أهرع رأيت طفلة تبكي واصطحبتها معي، استقبلونا خمسة جنود وأشهروا أسلحتهم علينا، وبدأوا بطرح الأسئلة والتحقيق وخوفهم من أن يكون أحد من التنظيم قد اختبئ بيينا خلسة ؛ لأن الدواعش كانوا يقومون باستغلال الجيش بتنكرهم بزي المدنيين، وبعد أن تكلم والدي معهم وتأكدوا من هويتنا وتحققوا منا وفتشونا رأيت أهلي وجلست عندهم وفي أحضاني تلك الطفلة الصغيرة ، وجاء أحد الجنود واضح من لهجته أنه من أهل الجنوب مبدياً تعجبه من ما حصل معنا ويسأل هل أنتم متأكدين أنه لم يصب منكم أحد لأن عددكم كثير والدواعش لم يخروا طلقة إلا وأطلقوها باتجاهكم، فلما تأكد من اكتمال العدد ولم يصب أحد بدأ بالتهليل والتكبير ، لأنه قال: بأننا خمسة جنود نختبئ خلف الساتر لأن الدواعش يقتنصونا ، حتى أن صديقنا كان خلف الساتر وأصيب وأنتم مئتي شخص ولم يخدش منكم أحد ! ، إنها معجزة والله حماكم بحمايته .
وتختتم غزل بوصف تلك الرحلة بالقول : أخذنا الجيش إلى منطقة اخرى وأحضروا لنا طعاماً ما لذ وطاب والاستقبال كان يليق بسمعة وطيبة هذا الجيش، وبعدها أحضروا لنا سيارات وذهبنا إلى بيت أختي في الجانب الأيسر متحررين فرحين مسرورين وتخلصنا من ظلم داعش وعادت حياتنا إلى طبيعتها، بعد أن كانت أرواحنا محمولة بكفوفنا لا نعلم متى تحن لحظات الوداع ، لكنها بالرغم من كل المآسي اصبحنا أقوياء لا نخشى شيئاً ولا نهتم بشيء، لكن الأمر المضحك المبكي أن بعض الناس الآن يسمعوننا كلام بأننا كنا مع التنظيم وعشنا معهم وكنا مثلهم وتطبعنا بأطباعهم بعد كل ما مررنا به وهم لايعرفون المعانات التي كنا نعيشها..
______________________________________________________
التجميع / وائل حسن الشبكي
يجب أن تكون مسجلا للدخول لتكتب تعليق.